نبض أرقام
02:08
توقيت مكة المكرمة

2024/06/03
2024/06/02

نوبل في الاقتصاد هذا العام .. لا يوجد من يشرح فكرتها أفضل من صقر حفر الباطن

2020/10/16 أرقام - خاص

صقر صغير من سلالة شاهين يتمتع بمواصفات نادرة إلى حد ما – من بينها على سبيل المثال بلوغ طوله وكذلك عرضه 16 بوصة لكل منهما – بيع قبل يومين وتحديدًا في الثالث عشر من أكتوبر الجاري مقابل أكثر من نصف مليون ريال ضمن مزاد نظمه نادي الصقور السعودي.

 

 

بدأت المزايدة على الصقر الذي تم اصطياده في حفر الباطن وسط حماس كبير من الحضور ولكنهم لم يكونوا أكثر حماسًا من الدلّال الذي راقب ارتفاع المزايدات على الطائر الصغير من 150 ألف ريال إلى 211 ألف ريال ثم إلى 300 ألف ريال لاحقتها سريعًا 400 ألف ريال قبل يحسم الأمر في النهاية من أصبح الآن المالك الجديد للصقر حين صاح قائلًا 650 ألف ريال، سكت بعدها الجميع وانتهى المزاد.

 

السؤال الآن: كيف فاز الفائز بالصقر؟ بعبارة أخرى، لماذا توقف جميع المزايدين الآخرين عن المزايدة؟ نفس السؤال بصيغة ثالثة، لماذا توقف الجميع باستثناء الفائز عن المزايدة رغم أن بعضهم ربما يمتلك ما يكفي من المال لدفع 10 ملايين ريال في ذلك الصقر وليس 650 ألف ريال فقط؟

 

قيمة الصقر

 

ببساطة توقف هؤلاء عن المزايدة لأن قيمة الصقر في تقديرهم لا تساوي أبدًا ذلك الرقم. ولكن عن أي قيمة نتحدث؟ هناك نوعان من القيمة، الأول هو القيمة المشتركة (Common Value) وهي تعبر عن القيمة الموضوعية لشيء ما، وربما نختلف في تقديرها أثناء المزايدة ولكنها في النهاية سواء بالنسبة للجميع.

 

على سبيل المثال، لنفترض أننا دخلنا أنا وأنت في مزاد على قيمة ما في محافظنا بحيث يحصل صاحب أعلى عرض على محفظة الأخر بعد أن يعطيه المبلغ المزايد به. أنت لا تعرف أن محفظتي بها ألف ريال، وأنا كذلك لا أعرف ما في محفظتك، وعلى هذا الأساس نزايد، ولكن في النهاية قيمة الألف ريال بالنسبة لي هي ذاتها بالنسبة لك، وبالتالي فهذه قيمة مشتركة واحدة بالنسبة للجميع.

 

 

أما النوع الثاني فيطلق عليه اسم القيمة الخاصة (Private Value) وهي قيمة يحددها الشخص بناء على قناعته وتفضيلاته الشخصية التي قد تتوافق أو لا تتوافق مع قناعات وتفضيلات الآخرين. على المثال، إذا كانت المزايدة على شرف مقابلة واحد من المشاهير وجهًا لوجه، فقد لا يعني هذا بالنسبة لي شيئًا وربما أجد نفسي غير مستعد لدفع أكثر من 15 ريالًا مقابل هذا الشرف بينما قد يندفع مزايد أخر مبديًا استعداده لدفع 15 ألفًا. هذا ما يشكله اللقاء من قيمة خاصة بالنسبة له.

 

بالعودة إلى صقر حفر الباطن، إذا كان الفائز دفع الـ650 ألف ريال بناءًا على ما يشكله هذا الصقر بالتحديد من قيمة خاصة بالنسبة له، فلا يوجد هنا مجال للحديث عن غلاء ثمن الصقر من عدمه لأنه ببساطة لا يأبه بما يعتقده الأخرون حول هذا الشأن، أما إذا كان يشتريه ويضع نصب عينيه القيمة المشتركة للصقر والتي ستظهر بوضوح حين يحاول إعادة بيعه، فهنا قد يجد نفسه ضحية ما تسمى "لعنة الفائز".

 

تخسر حين تكسب!

 

لعنة الفائز ببساطة هي أن تربح المزاد ولكن تخسر الصفقة. على سبيل المثال، إذا دخلت شركة في مزاد على حقوق التنقيب عن الغاز في منطقة محددة وربحت المزاد بعد أن عرضت 100 مليون ريال ثم اتضح لاحقًا أن القيمة الإجمالية للغاز الموجود في باطن تلك المنطقة لا يساوي أكثر من 80 مليون ريال، ففي هذه الحالة نقول إن تلك الشركة أصيبت بلعنة الفائز، لأنها دفعت في الشيء المزايد عليه أكثر مما يستحق.

 

وبنفس المنطق، لو حاول الفائز بصقر حفر الباطن إعادة بيعه ولم يتمكن من الحصول على عروض أعلى من 500 ألف ريال على سبيل المثال فهذا معناه أنه لم يكن لديه فكرة عن القيمة المشتركة الصحيحة لهذا الصقر، وفي هذه الحالة سيكون قد أصيب بلعنة الفائز لأنه كان صاحب أعلى تقييم وصاحب أكبر خسارة في الوقت ذاته.

 

ولكن ما لا ينتبه إليه كثيرون هو أن لعنة الفائز لا تضر المشتري فقط بل قد تضر البائع في كثير من الأحيان. فجهل المزايدين بالقيمة المشتركة الصحيحة للسلعة المعروضة يجعلهم شديدي الحذر أثناء المزايدة، وتجدهم يرفعون عروضهم للأعلى ببطء وقد يستسلمون سريعًا خشية دفع سعر مبالغ فيه والوقوع في فخ لعنة الفائز.

 

 

لنفترض أنك قررت الدخول في مزاد على ناقة لها مواصفات جمالية معينة تجعل سعرها العادل قريبًا من 100 ألف ريال، برأيك ما هو أفضل سيناريو بالنسبة لك كمزايد تعرف جيدًا قيمة هذه الناقة؟

 

بلاشك إن أفضل سيناريو هو أن يكون أغلبية الحضور جاهلين بالمعلومات والمواصفات التي تجعل هذه الناقة تساوي ذلك السعر وهو ما سيؤدي إلى تحفظهم الشديد أثناء المزايدة وخروجهم منها أبكر من اللازم بسبب خوفهم من لعنة الفائز، ليفسحوا المجال أمامك لتأخذها بسعر أقل بكثير من سعرها العادل.

 

الخاسر الواضح في هذه الحالة هو البائع نفسه والذي اضطر للتخلي عن ناقته بسعر غير عادل بسبب خوف باقي المزايدين الناتج عن جهلهم بالقيمة المشتركة الصحيحة لهذه الناقة. وبالتالي من مصلحة البائع أن يطلع جميع المزايدين على كافة المعلومات التي يمكنها مساعدتهم في تحديد القيمة المشتركة للسلعة.

 

الأمر يصبح أكثر تعقيدًا وإيلامًا حين يكون البائع هو الحكومة والسلعة هي منتج أو خدمة عامة، والسعر هو ثمن بخس يدخل إلى خزانة الدولة التي من المفترض أنها تمول في النهاية كافة جوانب التنمية في البلاد.

 

الفكرة التي ساعدت الحكومات على تطوير مزادات تعالج تلك الثغرة استحق صاحباها جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لهذا العام. ولكن قبل أن نوضح ما الذي فعله الرجلان بالضبط ليستحق كل منهما نصف الجائزة، سنترك حفر الباطن و2020 ونسافر معًا مكانًا وزمانًا إلى العاصمة الأمريكية واشنطن قبل 26 عامًا.

 

"أعظم مزاد على الإطلاق!"

 

في ظهر الخامس من ديسمبر 1994 خرج نائب الرئيس الأمريكي "آل جور" أمام الصحفيين وسط ضجة كبيرة ليعلن عن افتتاح ما أسماه "أعظم مزاد على الإطلاق". في غرفة أشبه بغرف الحرب السرية جلس الرؤساء التنفيذيون لأكبر شركات الاتصالات العالمية في إطار مزاد غير عادي لا يشرف عليه دلال وإنما مجموعة من أنبغ أساتذة الاقتصاد في الولايات المتحدة.

 

المزايدة كانت على تراخيص الترددات اللاسلكية التي تسمح لشركات الاتصالات بتوفير خدمات الاتصال اللاسلكي لعملائها. في البداية كانت الحكومة الأمريكية تقوم بتخصيص هذه التراخيص عبر عملية تعرف باسم "مسابقة الجمال" تقوم الشركات خلالها بتقديم ملف تشرح فيه لماذا ترى نفسها تستحق الترخيص. كان السؤال شبيه بذلك الذي يسأله مسؤولي الموارد البشرية للموظفين المحتملين: "لماذا يجب علينا أن نعينك في تلك الوظيفة؟"

 

 

هذه الطريقة الفاشلة دفعت شركات الاتصالات إلى إنفاق مبالغ ضخمة على جماعات الضغط لمساعدتها في إقناع الحكومة بالحصول على التراخيص، بينما لا تحصل الحكومة ممثلة في لجنة الاتصالات الفيدرالية (FCC) في النهاية على أي عوائد تذكر.

 

ومع توسع سوق الجوالات في التسعينيات وتحت إثر ضغوط من لجنة الاتصالات الفيدرالية سمح الكونجرس للجنة بإلغاء نظام مسابقات الجمال، واعتماد بدلًا من ذلك طريقة الياناصيب في تخصيص نطاقات الترددات اللاسلكية. ولكن مرة أخرى كان نظامًا فاشلًا لم يرضي شركات الاتصالات ولم يحقق إيرادات للحكومة.

 

مشكلة تلك الطريقة هي أن عملية اليانصيب أولًا الفوز بها غير مضمون وثانيًا أنها كانت تتم على المستوى المحلي وهو ما تسبب في حالة من العشوائية تمثلت في حصول كل شركة من شركات الاتصالات المتنافسة على تراخيص في مناطق غير متجاورة وبترددات مختلفة لا تستطيع ربطها ببعضها. وهذا طبعًا تسبب في ظهور سوق ثانوية تبيع فيه شركات الاتصالات لبعضها الترددات التي حصلت عليها مجاناً من الحكومة، لكي تستطيع كل شركة التوفيق بين تردداتها.

 

من أجل هذا استحقا نوبل

 

قد يقول أحدهم، ولماذا لا تستخدم الحكومة المزاد التقليدي الذي نعرفه والذي تعرض فيه السلعة بسعر قليل ثم تبدأ المزايدة عليها؟ الفكرة هي أن هذا المزاد – والذي يعرف باسم المزاد الإنجليزي – سيقف عاجزًا أمام مشكلة العشوائية الجغرافية لتوزيع الترددات والتي تباع بشكل فردي على المستوى المحلي.

 

لتبسيط الفكرة دعنا نفترض مثلًا أن الحكومة السعودية قررت بيع الترددات اللاسكلية في البلاد في مزادات تتم على المستوى المحلي. في أول مزاد يتم إجراؤه بأول منطقة على التردد رقم "1" ستكون جميع الشركات المتنافسة متحفظة جدًا أثناء المزايدة على هذا التردد وستعرض أقل أسعار ممكنة لأنها ببساطة لا تضمن أن تفوز بذات التردد في المزادات التي ستعقد في باقي المناطق.

 

إذا فازت الشركة "س" بالتردد رقم "1" فلن يزايد على هذا التردد في المزادات القادمة بباقي المناطق سوى هذه الشركة لأنها هي من تحتاجه لتربطه بذات التردد الذي حصلت عليه من المنطقة السابقة وهو ما يعني إيرادات أقل للحكومة. وفي بعض الأحيان قد يحرص طرف ثالث يعرف مدى احتياج الشركة "س" لهذا التردد على الفوز به في منطقة أخرى، قبل أن يقوم بإعادة بيعه لها بثمن أعلى مستغلًا حاجتها إليه.

 

 

لحل هذه المعضلة قام عالما الاقتصاد الأمريكيان "بول ميلجروم" و"روبرت ويلسون" الفائزان بجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2020 بإدخال تعديلات على نظرية المزادات وابتكار صيغا جديدة للمزادات من بينها "المزاد المتزامن متعدد الجولات" Simultaneous Multi-Round Ascending auction (SMRA).

 

"المزاد المتزامن متعدد الجولات" هو بالأساس نسخة مطورة من المزاد الإنجليزي التصاعدي الذي نعرفه جميعًا، ولكن ما يميز الأول عن الأخير هو أنه بدلًا من بيع ترددات المناطق المختلفة في البلاد بالتسلسل يتم بيعها كلها معًا بحيث يعطي الترخيص الشركة الفائزة به حق استخدام تردد معين في كافة أنحاء البلاد، وبدلًا من جولة واحدة تتم المزايدة على ثمن التراخيص في عدة جولات.

 

في كل جولة يمكن لأي شركة المزايدة على أي من التراخيص المعروضة. وبعد نهاية أول جولة يتم الإعلان عن الأسعار التي تم عرضها من كافة الشركات، ليصبح بإمكان كل شركة التعرف على عروض غيرها وتقديرهم للقيمة المشتركة للترخيص والمزايدة على هذا الأساس إذا أرادت. بمجرد أن يقرر أي من المشاركين المزايدة، يستمر المزاد في الانتقال من جولة إلى أخرى إلى أن تأتي الجولة التي لا يقوم فيها أي من المشاركين بالمزايدة لينتهي المزاد.

 

بعد أن كانت تبيعها بالمجان تقريبًا، تمكنت الحكومة الأمريكية في نهاية هذا المزاد من الحصول على أكثر من 7 مليارات دولار من شركات الاتصالات مقابل التراخيص. وفي خلال الأعوام العشرين الممتدة بين 1994 و2014 ارتفعت حصيلة تلك التراخيص لتصل إلى 120 مليار دولار.

 

 

الكل كان سعيد. الحكومة كانت سعيدة بملياراتها، والشركات كانت سعيدة بتراخيصها المتناسقة فنيًا وجغرافيًا والتي وفرت عليها أموالًا كثيرة كانت تدفعها تحت سيف الابتزاز للوسطاء، والمواطنين أيضًا كانوا سعداء بالأموال التي دخلت خزينة الدولة والتي انعكست عليهم في صورة خدمات عامة ورعاية اجتماعية.

 

خلاصة الكلام، بلاشك يستحق "روبرت ويلسون" و"بول ميلجروم" – والأخير تلميذ الأول بالمناسبة – جائزة نوبل عن جدارة واستحقاق لأن التحسينات التي أدخلاها على نظرية المزادات تعتبر دون مبالغة أحد أهم التطورات في الاقتصاد الحديث، ليس على المستوى النظري فقط وإنما على المستوى العملي أيضًا.

 

المصادر: أرقام – نيويورك تايمز – الإيكونوميست

كتاب: A Beautiful Mind

كتاب: Putting Auction Theory to Work

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة