نبض أرقام
01:54
توقيت مكة المكرمة

2024/05/20
2024/05/19
15:21
14:03
13:49
12:21

تحقيق اقتصادي: السوق العالمية للمواد الأولية والسلع.. تجارة تخضع لقانون العرض والطلب.. أم جشع وتلاعب من قبل السماسرة والوسطاء؟

2014/06/24 أرقام - خاص
يواجه العالم منذ منتصف القرن الـ 20 تزايدا ونموا غير محدود في معدلات استهلاك المواد الأولية، ويمكن القول أن تزايد عدد سكان العالم واقترابه من 7 مليارات نسمة، وقيام قوى اقتصادية جديدة عملاقة كالصين والهند والبرازيل خاصة مع بداية القرن الـ 21 أدى إلى الانفجار في الطلب على هذه المواد في السوق العالمية وارتفاع الأسعار بشكل كبير خلال العقد الأخير وخصوصا قبل الأزمة المالية العالمية فيما أطلق عليه دورة السلع العظيمة (Commodities Super cycle).

يعتقد البعض أن التزايد في الاستهلاك ليس هو السبب الوحيد في ارتفاع الأسعار إلى مستويات لم تشهدها من قبل ، بل إن التجار والوسطاء العالميين للمواد الأولية لهم دور رئيسي في هذا الارتفاع الجنوني وتحرك الأسعار، وقد عبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما في إحدى خطبه بشكل صريح عن هذه النقطة، وأشار إلى أنه لا يمكن السماح لهؤلاء الوسطاء باللعب بمصير العالم.. فمن هم هؤلاء الوسطاء وما حقيقتهم؟
                             

                              
الوسيط العالمي للمواد الأولية هو الشخص أو الشركة التي تسعى إلى عقد صفقة مربحة بين الطرف المنتج للسلعة أو المادة الأولية ( بن، نفط، قمح، قطن، رز،....) وبين المستهلك لها مع اشرافه على عملية اختيار وشحن ونقل السلعة من المنتج الى المستهلك.

الوساطة التجارية مهنة قديمة يمارسها البشر منذ عصور بعيدة، إلا أن بعض المؤرخين يعتقدون أن افتتاح سوق أمستردام سنة 1611 م هو الميلاد الرسمي لهذه المهنة، حيث افتتح السوق أبوابه أمام مئات التجار والوسطاء من مختلف أنحاء المعمورة لمناقشة الأسعار, الكمية, النوعية وموعد تسليم مختلف السلع, ويعتبر هذا التاريخ والمكان المنطلق الذي تشكلت منه أول مبادئ وأسس وفن الوساطة والسمسرة في سوق المواد الأولية، التي ما زالت متبعة إلى اليوم وإن اختلف الشكل.
 
         
رسم تخيلي لبورصة أمستردام خلال القرن 17م
 
حاليا يتخذ الوسطاء والسماسرة العالميون للمواد الأولية من جنيف – سويسرا - مقرا لنشاطهم, وتوفر لهم هذه المدينة كل التسهيلات والامتيازات البنكية والضريبية اللازمة, ويتواجد حاليا بها أكثر من 400 شركة وساطة أهمها: فيتول (VITOL) الأولى عالميا في تجارة النفط والغاز برقم أعمال قدره 300 مليار دولار، ومجموعة ABCD – تضم مجموعة الشركات الموضحة في الصورة أسفله - وتتحكم هذه المجموعة في 80% من السوق العالمي للمواد الزراعية برقم أعمال مشترك يتجاوز 340 مليار دولار، تأتي بعدها مجموعة جيلنكور (GLENCORE) وتنشط في جميع أسواق المواد الأولية برقم أعمال قدره 250 مليار دولار.

ما يثير الانتباه أن أغلب شركات الوساطة هذه تتحاشى وتتجنب قدر الإمكان الظهور الإعلامي أو التواصل مع الجهات الإعلامية، وتتخذ من الغموض والسرية مبدأ أساسيا في نشاطها ووجودها.
                 

مجموعة شركات ABCD
  
عند البحث في التاريخ الحديث والمتاح لشركات الوساطة العالمية نجد اسما لامعا وهو اليهودي "مارك ريتش" مؤسس شركة جيلنكور GLENCORE وأحد كبار اللاعبين في سوق البترول خلال السبعينيات، ويعتبره البعض عبقري المهنة ولقب بملك النفط، هذا الشخص تمكن من إتمام صفقة لبيع النفط بين إيران وإسرائيل قبل سقوط نظام الشاه، واستطاع أن يثبت نفسه، ويستمر كوسيط لإيران حتى مع نظام الخميني، بل وباع النفط الإيراني حتى خلال أزمة رهائن السفارة الأمريكية في طهران رغم الحظر الأمريكي المفروض على إيران، واستطاع من خلال هذه الصفقات وصفقات مشابهة في ليبيا وأنجولا، وتحمله لمخاطر عالية أن يحقق ثراء كبيرا.

طبعا هذا الأمر لم يمر بسلام وجعله على رأس المطلوبين في قائمة FBI, ولم يعد للولايات المتحدة رغم العفو عنه رسميا من طرف كلينتون لاحقا، وتوفي سنة 2013.
       


                                مارك ريتش - الملقب بـ"ملك النفط".
 

يرى الوسطاء في هذه السوق أن مهنتهم ليست ككل المهن وأنها تجارة عالية المخاطر، محدودة الربح في أغلب الأحيان، ويصف أحدهم الحال بقوله إنه في معدل الصفقات، التي يقوم بها عليه أن يستثمر 3 ملايين دولار لأجل ربح قدره 100 ألف دولار، بمعادلة خطيرة فإما أن تربح 100 ألف أو تخسر 3 ملايين كاملة حسب قوله.

أكثر من ذلك، وسطاء المواد الزراعية (البن مثلا) أكثر المواد الزراعية المتاجر بها عبر العالم يصفون مهنتهم بأنها مهنة شاقة لا يمكن لأي شخص أن يقوم بها، وليست مهنة تنجز بالهاتف أو من وارء جهاز الكمبيوتر، فالوسيط المختص في البن عليه أن يسافر إلى عمق الدول المنتجة في امريكا اللاتينية، ويبحث في مهمة مكوكية عن أنواع البن الممكن بيعها، ويختبرها، ويحدد الكميات ويدير كامل عملية النقل والشحن إلى الجهة المستهلكة أو المشترية، يضاف لها مخاطرة السعر، حيث إنه على الوسيط أن يلتزم بتوفير المادة للزبون بالسعر المتفق عليه مهما كانت تقلبات الأسعار في السوق، حتى وإن ارتفع السعر 3 أضعاف.
     

      
                                   تاجر يختبر أنواع القهوة قبل الشراء
       

وسيط المواد الزراعية مثلا عليه أحيانا أن يشتري المنتج قبل إنتاجه بسنوات، بن كان أو قمحا أو أرزا أو قطنا أو ذرة... وعليه أن يلتزم بالدفع بالسعر المتفق عليه مهما كانت التغيرات، ولنتخيل خلال سنوات ما هو احتمال التغير وبالتالي المخاطرة القائمة.

يقول أحد الوسطاء – مختص في تجارة القطن - نحن نشتري موادا ونبيعها بفارق زمني يمتد لأكثر من سنة (عقود آجلة)، وحتى تضمن الربح عليك أن تعرف تحرك السوق مستقبلا بدقة، والمشكلة أنه لا أحد إطلاقا يمكنه أن يعرف تحرك السوق مستقبلا، فنحن – الوسطاء - نتوقع ونحلل ونجمع معلومات لكن لا نعرف مستقبل الأسعار ولا نتحكم في تحرك السوق فلا أحد يمكنه ذلك، فالسوق تحركه عدة عوامل تخضع للعرض والطلب والتضخم والأوضاع السياسية والأحوال الجوية.. وغيرها من العوامل غير المتحكم بها.

المعلومة أيضا لها دور كبير في تجارة المواد الأولية، وللحصول على معلومة صحيحة ومهمة يتطلب وجود شبكة علاقات فعالة مع الأوساط المطلعة، شركة GLENCORE مثلا، تمكنت خلال عام 2010 من تحقيق أرباح كبيرة من المضاربة في القمح، هذه الأرباح حققتها الشركة بفضل حصولها مسبقا، ومن مصادر مطلعة جدا في الكرملين عن معلومة مفادها أن روسيا ستعلن وقف صادراتها من القمح لتلك السنة بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد.
  

   
      صورة مركبة من إحدى الصحف تصور مدير شركة GLENCORE على أنه أخطبوط يهدد العالم
 
إلى هنا القصة قصة سوق حقيقية أو سوق تقليدية بمصطلحات، سلعة، مخزون، نقل، منتج مستهلك، بيع وشراء لسلع حقيقة لكن هناك مصطلح سينقلنا إلى عالم آخر وهو مصطلح العقود الآجلة، فقد ذكر أعلاه أن الوسيط أو التاجر قد يشتري المنتج قبل سنة أو سنوات من زراعته أو استخراجه من باطن الأرض، وهذه العقود عالية المخاطر واحتمال عدم البيع أو تحقيق الخسارة مرتفع عليها، كما أنه لا يمكن توفير تأمين يغطي هذا النوع من العقود، وبالتالي فإن أي تاجر لن يتردد في بيع هذه العقود في الوقت الذي يتوافر فيه المشتري – اي مشتري كان - والربح، أو تقليل الخسارة إن كانت ستتفاقم، هكذا ولدت فكرة بيع والمتاجرة في العقود الاجلة.

العقود الآجلة ستنقلنا إلى السوق المالية، حيث يتم تداول هذه العقود، كورق وعقود واتفاقيات لشراء سلعة ستنتج في المستقبل، تتداول عبر مختلف الأسواق العالمية المتخصصة، كما تتداول الأسهم العادية للشركات، وبالطبع، فإن التجار الحقيقيين للمواد الأولية من أهم الفاعلين في هذا السوق بحكم خبرتهم ومعرفتهم بخفايا السوق الحقيقي، ويسعون لتحقيق الأرباح عبر التداول والمضاربة في هذه العقود.

أغلب التقلبات الحادثة في أسعار السلع منبعها هذا السوق – سوق العقود الآجلة - ويرى الوسطاء أن العوامل المتحكمة في أسعار السلع عبر أسواق العقود الآجلة تتجاوز بكثير العوامل المتحكمة في الأسواق الحقيقية، والمشكلة أن سعر السلعة أصبح يحدد عبر هذه الأسواق الآن ومستقبلا وأن الوسيط أصبح عاجزا عن مجاراة هذه التقلبات، أو باختصار فإن الأمر أصبح غير مفهوم وخارج عن السيطرة تماما.
   

   
                                            بورصة شيكاجو للسلع

في سنة 2000 ومع انفجار فقاعة أسهم التكنولوجيا في الأسواق الأمريكية وتراجع سوق الأسهم، نشر في امريكا تقرير اقتصادي بعنوان الحقيقة والخيال حول العقود الآجلة للمواد الأولية، جاء في هذا التقرير أن الاستثمارات في المواد الأولية مربحة جدا، ويجب استغلالها لتنويع محفظة الأسهم، وقدم التقرير معادلات رياضية تنبؤية لمستقبل هذه العقود، ما ساهم في دخول البنوك الكبيرة بمحافظ استثمارية ضخمة إلى سوق المواد الأولية.

يقول أحد الخبراء: لنتخيل ردة الفعل عند ضخ البنوك لسيولة كبيرة بمليارات الدولارات في هذا السوق، ولنتخيل تصرف مديري محافظ البنوك في إدارة محافظهم حين تلزمهم إدارة البنك بتحقيق أرباح لا تقل مثلا عن 20 % سنويا او الطرد ، ستصبح المضاربات على السلع جنونية والسعي الى الربح غير عقلاني، والأمر سيخرج كليا عن السيطرة.

أكثر من ذلك يقول: عملية الوساطة لم تعد مقتصرة على البشر اليوم، بل أصبح وسيط البنوك في أسواق المال العالمية مجموعة روبوتات وكمبيوترات مبرمجة على معادلات لوغارتمية معقدة، تتدخل هذه الروبوتات بسرعة كبيرة وتتخذ قرارات بالبيع أو بالشراء مع أي تغير بسيط لمعاملات المعادلة، وتقوم بمئات العمليات في جزء من الثانية، الأمر أصبح جنونيا وسريعا، ويتخطى قدرة وسلطة البشر.

الوسيط الإنسان يتعب، يرتاح، يغفل، يتوقف عن العمل، ويدير كمية محدودة من الأموال، ومنه فإن تأثيره على الأسعار وعلى السوق يكون بطيئا ومحدودا، أما الوسيط الآلي – الروبوتات- فلا يتوقف تماما ويجري آلافا، وملايين عمليات البيع والشراء في أقل من دقيقة وبمليارات الدولارت، ويتخذ القرار لأجل أبسط التغيرات، هذه موجة عارمة لا يمكن ايقافها ولاندري إلى أين ستقود.. يقول الخبير.
     
   
                                          روبوتات الوساطة المبرمجة

 
رؤساء الدول الكبرى وعلى رأسهم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما وبعد أزمة عام 2008، هاجموا مباشرة وسطاء المواد الأولية والبنوك العالمية الكبرى واتهمومهم صراحة بالمضاربة ورفع أسعار هذه المواد إلى مستوى مبالغ فيه، ويتعدى القدرة الشرائية للمواطنين البسطاء عبر القارات الخمس، وهو ما أدى إلى أحداث اجتماعية وسياسية هزت الكثير من الدول في مختلف أنحاء العالم.

تشير البيانات إلى أنه في سوق شيكاجو مثلا يتم سنويا تداول القمح بأكثر من 47 مرة، مقارنة بالإنتاج العالمي السنوي، والنفط بأكثر من 35 مرة من الإنتاج العالمي، والذرة بأكثر من 23 مرة من الإنتاج العالمي، وهنا يتساءل زعماء الدول، لماذا يحدث هذا؟ وبأي سعر يا ترى سيصل المنتج إلى المستهلك النهائي، مقارنة بسعر البيع في أول صفقة! واعتبرو ان هذا الربح ربح غير مشروع ويجب ايقاف هذه المهزلة بقوة القانون.

يقول أحد الوسطاء: هم يتهموننا برفع أسعار النفط إلى 100 و120 دولارا، نحن لم نرفع الأسعار إلى هذا المستوى، هذا لا يخدمنا، نحن نسعى لتعظيم الربح وليس لرفع السعر إلى مستوى معين، هناك فرق بين الأمرين، فبالنسبة لي أن أحقق ربحا بين شراء بـ 25 وبيع بـ 30 دولارا أفضل بكثير لي من أن أحقق ربحا بشراء بسعر 100 وبيع بـ105 دولارات، الأمر ليس بأيدينا، النظام الحالي ككل هو ما يدفع إلى هذا الوضع.

سعت العديد من الدول الكبرى بعد أزمة 2008 إلى التحكم في نظام أسواق السلع بسن قوانين وفرض عقوبات على من ثبت عليهم المضاربة في الأسعار والسلع، إلا أن الأمر ما زال بعيدا عن السيطرة، وعليه تحاول دول كالصين مثلا أن تطور علاقات مباشرة بين المنتج والمستهلك، دون اللجوء إلى أسواق السلع العالمية ووسطائها، وقد أبرمت العديد من الشركات الصينية المختصة في المواد الزراعية وتربية الحيوانات عقودا مباشرة مع الشركات الزراعية في البرازيل مثلا لشراء منتج الصويا، بأسعار أقل من المتداول بها في البورصة العالمية، ويعتقد أن هذا النوع من العلاقة المباشرة سيفيد المستهلك والمنتج ويسهم في تصحيح نظام المتاجرة الحالي الذي أصبح لا يخدم البشرية وخارجا عن السيطرة.
    
    
                                   صورة لجني محصول الصويا من مزارع البرازيل

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة