نبض أرقام
08:20
توقيت مكة المكرمة

2024/05/20
2024/05/19

تحقيق اقتصادي: نهاية الصلاحية المخططة للمنتجات.. ضمان لاستمرار النمو أم إهدار للموارد؟

2013/06/04 أرقام - خاص
بُني الاقتصاد العالمي المعاصر – الحر - على أساس الاستهلاك، حيث يعتبر الاستهلاك هو المحرك لعجلة الاقتصاد والضامن لاستمرار الشراء والبيع والإنتاج وبالتالي النمو والتطور والازدهار والثراء.

في مركز للإطفاء بمدينة ليفرمور بولاية كاليفورنيا الأمريكية يوجد مصباح مضيء طوال 112 سنة، وما زال يضيء إلى اليوم باستمرار منذ أن تم تركيبه سنة 1901، هذا المصباح تم صناعته بداية القرن الماضي ليستعمل لأطول فترة ممكنة وبدون تاريخ صلاحية محددة أو مخططة، وللعلم فإن صناعة المصابيح كانت من بين أول المنتجات الصناعية التي طبقت عليها فكرة ومبدأ نهاية الصلاحية المخططة.
 
مصباح ليفرمور
 
                                      مصباح ليفرمور، يضيء منذ 1901.

عند اختراع إيديسون للمصباح وبداية انتشاره تجاريا – 1881- كان عمره الافتراضي يتجاوز 1500 ساعة، وقد تنافست الشركات حينها على زيادة عمر المصباح لأطول فترة ممكنة، ووصلت إلى 2500 ساعة.

وفي سنة 1932 اجتمع أكبر منتجي المصابيح بقيادة جنرال إلكتريك، واتفقوا على تخفيض عمر المصباح إلى أقل من 1000 ساعة بطرق تقنية، وأُجبر الجميع على أن يكون أي مصباح منتج مطابقا للمواصفات الموضوعة وألا يتجاوز عمر المصباح 1000 ساعة، وذلك بهدف زيادة الاستهلاك وبالتالي زيادة المبيعات والأرباح.
 
تومس ايديسون
 
                                                  تومس ايديسون

لمثل هذا الهدف، ولدت فكرة نهاية صلاحية المنتج المخططة أو المتعمدة، التي تعني تصميم منتج بتاريخ صلاحية محددة ومخططة مسبقا بحيث يضمن تلبية رغبة الزبون إلى حد معين، ويضمن استمرارية الاستهلاك والطلب، وبالتالي رفع المداخيل للشركة.

يرى البعض أن ميلاد الفكرة جاء بعد الثورة الصناعية وسيطرة الآلات على خطوط وسلسلة الإنتاج وازدياد العرض إلى مستويات تجاوزت رغبات وطلبات المستهلكين وتسببت في تكدس السلع وخسائر للشركات، حينها اعتبر منظرو الاقتصاد الحر أن المنتج غير المنتهي الصلاحية كارثة على قطاع الأعمال والصناعة والاقتصاد ولضمان نجاح الأعمال والتجارة، يجب العمل على صناعة منتج بصلاحية منتهية.
 
صورة عن دخول الالات الى المصانع بداية الثورة الصناعية

                          صورة دخول الآلات إلى المصانع بداية الثورة الصناعية.

شركة فورد كانت من بين الشركات، التي تأثرت كثيرا بهذه الفكرة، ففي سنة 1920 أطلقت الشركة سيارة "فورد تي"، التي تميزت بكونها قوية – إلى درجة أنها استعملت كجرار- وعملية وبصلاحية تمتد لسنوات وسنوات وسيطرت خلال بداية عشرينيات القرن الماضي على سوق السيارات عبر العالم لمدة طويلة، إلا أن الشركة المنافسة في السوق "جنرال موتورز" تبنت منحى مختلفا عن فورد، ولم تنافسها في جانب القوة والميكانيكا، بل في التصميم والشكل وأطلقت سيارة شيفروليه بتصاميم وألوان مختلفة ومتغيرة ومطورة من سنة إلى أخرى، وكان هدفها من ذلك تحفيز المستهلك على تغيير سيارته كل ثلاث سنوات، وقد نجحت في ذلك فعلا وأجبرت فورد على تغيير استراتيجيتها بعد تراجع رهيب في مبيعات سيارة "فورد تي"، واضطرت لسحبها من السوق، وتغيرت سوق السيارات إلى يومنا هذا.

 
 
                                                سيارة "فورد تي"

خلال سنوات الكساد الكبير – أزمة 1929- اقترح بعض المفكرين الاقتصاديين تطبيق مبدأ نهاية الصلاحية المخططة على جميع المنتجات الصناعية، وطالبوا بسن قوانين تجبر المستهلكين على التخلي عن منتجاتهم عند حلول تاريخ نهاية صلاحية المنتج على أن تتكفل الحكومة بالتخلص من هذه المنتجات، وكان الهدف من ذلك هو رفع مستويات الطلب وضمان استمرارها، وبالتالي زيادة الإنتاج وإعادة عجلة الاقتصاد للدوران والنمو مجددا، إلا أن الفكرة لم تطبق حينها.
 
صورة معبرة لعائلة خلال سنوات الكساد الكبير
 
                                 صورة معبرة لعائلة خلال سنوات الكساد الكبير

خلال سنوات الخمسينيات وازدهار الاقتصاد الأمريكي عقب الحرب العالمية الثانية وارتفاع الاستهلاك في أمريكا إلى مستويات غير مسبوقة بدأت فكرة نهاية الصلاحية المخططة تتجذر وتتأصل لدى الشركات وشملت كل المنتجات وبعدة أفكار، وأصبحت اليوم إحدى أهم دعائم استمرار النمو الاقتصادي بمعادلة بسيطة "منتج منتهي الصلاحية يعني استمرار الاستهلاك والطلب.. يعني استمرار البيع والأرباح.. يعني استمرار النمو".

يقول أحد الاقتصاديين المنتقدين لفكرة انتهاء صلاحية المنتج المخططة وضرورة ضمان استمرار النمو الاقتصادي: "نحن نعيش في مجتمع النمو الاقتصادي فيه ليس لأجل إشباع الرغبات، بل لأجل ضمان استمرار نمو الإنتاج، ونمو الأرباح بلا نهاية، ولتبرير نمو الإنتاج تعمل الشركات على جعل الاستهلاك ينمو بلا نهاية وباستمرار.. والعوامل الضامنة لاستمرار نمو الاستهلاك هي: الإعلانات التجارية، ونهاية صلاحية المنتج المخططة، والقروض".

ويعلق على هذه الفكرة بقوله بأن من يسعى لضمان نمو مستمر للاقتصاد والإنتاج وبلا نهاية في أرض مواردها محدودة ومنتهية إما مجنونا أو اقتصاديا، والمشكلة أن الكل أصبح اقتصاديا الآن، ويسعى للإبقاء على هذا النمو المستمر، ويتوقع أن تكون نهاية هذا المجتمع النامي (حسب تعبيره) مأسوية في المدى البعيد أو القريب.
 
صورة معبرة عن المجتمع الاستهلاكي


                                   صورة معبرة عن المجتمع الاستهلاكي

في الجهة المقابلة، يرى أنصار فكرة النمو المستمر وضرورة نهاية صلاحية المنتجات أنه لولا هذا المبدأ لما وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم من تطور، وأنه لولا نهاية الصلاحية لما كانت هناك أعمال ولا رواتب ولا خدمات وستختفي من الوجود العديد من الوظائف، ويستشهدون بحادثة وقعت في الخمسينيات من القرن الماضي حين طورت إحدى الشركات الأمريكية جوارب نسائية من النايلون غير قابلة للتمزيق، ويمكن استعمالها لسنوات.


في بداية الأمر حققت الشركة مبيعات كبيرة ومع الزمن تراجعت مبيعاتها بشكل رهيب واضطرت إلى تسريح العديد من الموظفين وإغلاق العديد من الأقسام والمصانع – لأن النسوة لم يعدن بحاجة لجوارب جديدة بجواربهن، التي لا تمزق- وسحبت المنتج من السوق وطورت جوارب جديدة سريعة التمزق – الموجودة إلى يومنا في الأسواق - لتعوض عن خسائرها لاحقا وتعيد العمال المسرحين وتوظف أكثر.
 
زحام النسوة لشراء جوارب النايلون
 
                         خمسينيات القرن الماضي.. زحام النسوة لشراء جوارب النايلون.

المذكور أعلاه هي مبادئ وأسس وقصص من واقع الرأسمالية، إلا أنه في وقت سابق – وبدرجة أقل اليوم – كان يوجد نموذج اقتصادي ثان في الجهة المقابلة من الأرض– النموذج الاشتراكي – والمعتمد كبديل اقتصادي وسياسي للرأسمالية، وبمبادئ وأسس وقصص مختلفة تماما، في النموذج الاشتراكي الذي يعتمد على الاقتصاد الموجه والمخطط من الدولة ويسعى للاستغلال الأمثل للموارد المحدودة – عكس الاقتصاد الحر- لم يكن لفكرة نهاية صلاحية المنتجات المخططة أي وجود وكانت منتجات بسيطة كثلاجة أو التلفزيون أو حتى غسالة ملابس تصنع لتستعمل أكثر من 25 سنة.
 
ماركس وانجلز ولينين رواد الاشتراكية
 
                                    ماركس وانجلز ولينين رواد الاشتراكية.

يعود المصباح مرة أخرى هنا، ففي سنة 1981 تمكنت ألمانيا الشرقية – الاشتراكية حينها – من صنع مصباح يدوم لفترة طويلة جدا – بعضها ما زال مشتغلا إلى اليوم – وعرض المصباح في معرض دولي للبحث عن مشترين أجانب، وفي حوار يختزل عمق التناقض الفكري بين الرأسمالية والاشتراكية قال مهندسو ألمانيا الغربية – الرأسمالية حينها- لنظرائهم من ألمانيا الشرقية "ستدمرون صناعتكم واقتصادكم بهذه المنتجات التي لاتفنى" فرد عليهم مهندسو ألمانيا الشرقية "نحن ننقذ صناعتنا واقتصادنا بالحفاظ على الموارد وعدم تبذيرها".

اليوم وبعد أكثر من عشرين سنة من انهيار جدار برلين - وانهيار الاشتراكية واقتصادها وصناعتها - توحدت ألمانيا وتحولت البلاد كليا إلى النموذج الرأسمالي، ونهاية صلاحية المنتج المخططة أصبحت تطبق في كل البلاد، وأغلقت نهائيا مصانع المصباح الذي لا يفنى.
 
‫تحطيم جدار برلين‬
 
تحطيم جدار برلين‬

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة